مفهوم الباعث
هو إذن خاطر في قلب الانسان يزعجه ويقلقه أو كما يقول صاحب “منازل السائرين” هو “انزعاج القلب لروعة الانتباه” يخاطبه: إلى متى تعيش في هذه الحياة وأنت غافل؟ أما آن لك أن تتعظ وأن تفهم؟ عتاب وخطاب ينبعث في قلب الانسان، فيخاطب به نفسه ليحركها ويرغبها في الإقبال على الله تعالى، ويشعرها بالندم على ما فات وضاع”.
ولهذا يسمونه الباعث لأنه ينبعث أولاً في الانسان من الله تعالى، ولأنه ثانياً يبعث أي يحرك الانسان في طلب الإقبال على الله تعالى، فهي نقطة فاصلة وإدراك لحقيقة كانت مغيبة، لحظة صدق مع النفس يشرف الانسان فيها على نفسه ويبدأ في السؤال: الى أين؟ وإلى متى؟
أعلى الصفحة
أسباب حصوله
وهذا الباعث أو الإدراك يأتي من ألف طريق وطريق، ومن كل إشارة حسية أو معنوية يجد الإنسان فيها أنها تخاطبه هو دون سواه، لكن اذا كانت البداية هي بطاقة دعوة من الرب الكريم إلى العبد ليقبل عليه، فلِمَ نتحدث عن طلب حصول الباعث؟
ذلك لأن الله عز وجل جعل أسباباً لحصول هذا الباعث في قلب الانسان: إما حالة ترغيب أو حالة ترهيب او حالة تشويق، ومن الممكن ان يأتي الباعث من غير تلك الأسباب كلها، من دون أن يعني ذلك ان يتكاسل الانسان ويتقاعس عن طلب الباعث، فكما أن للرزق أسباباً أمرنا الرزاق الكريم بالأخذ بها، فإن للهداية أسبابها كذلك، أو ليس الذي يهدي هو الذي يرزق؟
ويذكر العلماء ان النفس البشرية تتأثر وتنفعل إما لخوف وترهيب، وإما لطمع وترغيب، وإما بسبب ثالث هو المحبة والتشويق، أما وصلك يوماً انذار من صاحب العمل بسبب بعض الإهمال ثم انبعثت في داخلك الهمة والنشاط؟ أما تساءلت عن أسباب تلك الهمة والنشاط؟ ذلك لأن النفس بحاجة الى نوع ترهيب على نحو يغدو فيه ذكر آيات النار والعذاب والتذكير بها - في حقيقتها ومقصدها - من دلائل رحمة الله عز وجل بالانسان، فالنفس تحتاج الى ان تتذكر ساعة الموت، وأن تتذكر ساعة الحساب مع كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها، وأن تتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله تعالى، فتحصل في القلب اليقظة والهمة في الإقبال على الله عز وجل.
وفي المقابل قد تنبعث همة النفس وتنشط كذلك بالترغيب والطمع فيما عند الله عز وجل، فعندما تقرأ ما أعده الله تعالى من نعيم مقيم لأهل الإقبال عليه ألا يحرك هذا في قلبك معنى وباعثاً؟ ألا تهفو نفسك وتحلق بك في روضات الجنان ويأخذك القلب الى تصور ماهية النعيم المقيم وتأمل “خالدين فيها أبداً”؟ فهذا هو السبب الثاني لانبعاث الهمة بالترغيب والطمع.
والثالث بطريق المحبة والتشويق عندما تتفكر في قوله تعالى: “ورضوان من الله أكبر” (التوبة/72)، أو تتأمل كيف في لحظة مخاطبته للمسرفين على انفسهم لم يتبرأ منهم بل نسبهم إليه فقال: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله” (الزمر/53)، أو عندما تمر على حديث المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم يخبرك فيه ان ربك جل جلاله يناديك في كل ليلة: “هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟” (صحيح مسلم) باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل والإجابة فيه 2/176 برقم ،1810 ألا يحرك كل ذلك في قلبك معاني المحبة والشوق الى الرب الكريم الذي يعاملك بكل هذه الرحمة، وبكل هذا الاحسان وبكل هذا الحب والرضوان؟
فعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “قدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي اذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار”؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لله أرحم بعباده من هذه بولدها” (صحيح مسلم)، “كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه”، 8/97 برقم 7154.
وفي سنن أبي داوود عن أحد صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: “يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت إليك، فمررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن، فوقعت عليهن معهن، فلففتهن بكسائي فهن أولاء معي. قال: ضعهن عنك، فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن” (سنن أبي داوود، كتاب الجنائز باب الأمراض المكفرة للذنوب، 3/149 برقم 3091). فعندما تستشعر انت مثل هذا الاستباق من الله بهذه المعاملة الراقية ألا تحب هذا الرب.. ألا تشتاق إليه؟
فهذه أسباب ثلاثة لحصول باعث الإقبال على الله، وقد تحدث الهداية بغير ما سبب منها، تماماً كما يصلك الرزق من حيث لا تحسب، ولك ان تراجع قصص الصالحين لتقف على لحظة الصدق تلك في حياتهم، بل قد تجد في حياتك أمثلة كثيرة لأفراد يتعجب الناس منهم ومن طرق هداية الله تعالى لهم وتوبته عليهم. لكن حذاري من الانتظار والتواكل.
أعلى الصفحة
مهمات ثلاث
قلنا إن الباعث هو بطاقة دعوة وجهت لك من الله تعالى، وأنت مطالب بالاستجابة والتلبية، ولهذا فأمامك ثلاث مهمات مع الباعث تشكل نوع الاستجابة له: المهمة الأولى، أن تحافظ عليه، فهو هدية من عظيم وقد يصل الانسان الى أرذل العمر وما تحرك في قلبه مثل هذا الباعث، فإذا انبعثت في قلبك همة الاقبال على الله فحافظ عليها وقوها حتى لا تذهب عنك. لكن كيف تحافظ عليه؟ قالوا: بالإعراض عن مجالسة السيئين وعن وسوسة الشياطين، فاختر لنفسك من تجالس، لأن الانسان يتأثر بجليسه شاء أم أبى، كما نحفظ من حديث “مثل الجليس الصالح والجليس السوء” (صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد باب المسك 5/2104 برقم 5214).
والمهمة الثانية: تقوية الباعث، والباعث يتقوى بثلاثة أشياء، ذكر الله، والفكر فيما عند الله، ومجالسة الصالحين لأن مجالستهم تحرك في القلب الرغبة فيما أعطاهم الله من الخير، ولهذا كان بعض الصالحين يقول: “إني ليخطر على قلبي خاطر المعصية، فأنظر الى وجه فلان فينقطع هذا الخاطر عن قلبي”، ويقول آخر: “اذا نظرت الى محمد بن الواسع تجددت همتي في الطاعة شهراً كاملاً”، ذلك لأنه نظر الى انسان تحقق بثمرات الطاعة، ولأن هؤلاء الصالحين جالسوا غيرهم ممن سبقهم من الصالحين ثم تتسلسل هذه المجالسة المباركة هكذا الى أصلح الصالحين.
وهذا شرف وعز خص الله تعالى به أمتنا في مسألة تسلسل النظر والمجالسة، ولن أسألكم من هم أفضل الأمة لأنهم بلا شك الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين، لأنهم اجتمعوا بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته يقظة وآمنوا به وماتوا على الاسلام، لكني أسألكم عن سبب فضيلة اللاحقين بأجيال متعاقبة عليهم، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان يغزو فِئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فِئامٌ من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فِئامٌ من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم” (صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم 7/183 برقم 6630). فانظر وتأمل كيف يفتح الله عليهم بسبب النظر المتصل والمجالسة؟ وهو معنى فيه من العمق ما يستحق إفراده ببحث ودراسة.
والمهمة الثالثة التي عليك إزاء الباعث هي الاستجابة، وذلك بالمبادرة الى طلب الأعمال الصالحة، فإذا حصلت في قلبك همة أنك ستقبل على الله تعالى: فقل: من الليلة لن تفوتني صلاة الفجر، ومن الغد سوف أتعامل مع الناس وأتعامل مع الله بإخلاص، وإياك إياك والتسويف، وقد أمكنتك الفرصة فانتهزها، وفتح لك الباب فادخل، ودعاك الداعي فأسرع، ورحم الله الربيع بن سليمان اذ كان يقول: “سيروا الى الله عُرجاً ومكاسير ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة”، أي على ما فيكم من تقصير.. وعلى ما فيكم من نقص.. وعلى ما فيكم من ذنوب.
أعلى الصفحة