الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أيها الإخوة. والاخوات. لدي سؤال:
لماذا غاب الندم؟
لماذا غاب هذا الإحساس المهم- الذي هو من شروط التوبة الصحيحة-
عن كثير منا؟ لماذا؟
إنها مشكلة كثير من الإخوة ، وإن لم يحسنوا أن ينطقوا بها..
لكن أسئلتهم في الغالب تشير إلى غياب هذا الحس الهام..
يقول أحدهم: "أتوب وأعود. فما الحل؟ "
ويقول آخر: "أصر على الصغائر. فما الحل؟ "
وتقول أخرى: "أفكر في خلع الحجاب. فما الحل؟"
ويقول آخر:" يراودني الإحساس للتقهقر. فما الحل؟"
إن المشكلة الحقيقية لكل هذه الحالات: غياب الندم على ما فات من معاصٍ وتقصير..
إنه البرود.
والمطلوب إذن تسخين القلوب ،
والمطلوب إذن دموع ساخنة تذيب هذا الجليد من غياب الندم..
أيها الإخوة.. ذكرتُ في كتاب (كيف أتوب؟) أن الندم يحصل بمطالعة الجناية، وهذا يكون بــ:
1- تعظيم الحق جل جلاله ومعرفة مقامه، ومعرفة ذاته وصفاته وتعبّده بها.
2- و معرفة النفس وإنزالها منزلتها، ومعرفة أن سبب كل شر يقع فيه ابن آدم من نفسه.
3- و تصديق الوعيد.
تعظيم الله - معرفة النفس - تصديق الوعيد
تعالوا هنا، نتعرض لأول وأهم هذه الثلاثة؛
( 1 ) تعظيم الحق جل جلاله
فإذا أردت أن تعرف عظم الذنب، فانظر إلى عظمة من أذنبت في حقه.
أكبر آفة وقع فيها أهل عصرنا ،وأكبر معصية ارتكبتها قلوب أمتنا: أن زالت هيبة الله من القلوب.
هذه هي المأساة..
إننا صرنا نخاف من البشر أكثر من خوفنا من الله،
ونستحي من البشر أعظم من حيائنا من الله، ونرجو البشرأعظم من
رجائنا في وجه الله، لذا لما هان الله علينا هُنّا عليه والجزاء من جنس العمل.
أيها الإخوة..والاخوات
إن تعظيم الحق ألا يرى في قلبك سواه. ومن كملت عظمة الحق
تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته،لأن مخالفة العظيم ليست
كمخالفة من هو دونه، فينبغي أن يعظم الله في قلبك..
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
"واستجلاب تعظيم الرب.. أن تعرف الله سبحانه وتعالى،
وهو سبحانه يتعرف إلى العباد في قرآنه،وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم..
بصفات ألوهيته تارة.. وبصفات ربوبيته تارة أخرى..
فمعرفة صفات الإلهية توجب للعبد المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه،
والأنس والفرح والسرور به..هذا مما يوجبه النظر في صفات الألوهية.
و مَثـل الصفات التي توجب عبادته جل جلاله؛ صفات الأمر والنهي،
صفات العهد والوصية، صفات إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع،
هذه تنبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ، والتبليغ لها والتواصي بها،
والتصديق بالخبر والامتثال بالطلب، والاجتناب للنهي..
و الصفات التي تجلب التعبد أن يسر العبد بخدمته، وينافس في قربه، ويتردد إليه بطاعته،
ويلهج لسانه بذكره، ويفر من الخلق إليه، ويصير الله وحده هو همه دون سواه.
أما شهود صفات الربوبية.. فإنها توجب التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به،
والذل والانكسار له، وكمال ذلك [وهو الشاهد الذي أرجو أن يُتَوَصَّل إليه] :
أن تشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته..
أن تشهد حمده في ملكه.. وعزه في عفوه.. وحكمته في قضائه وقدره..
ونعمته في بلائه.. تشهد عطاءه في منعه، بره وإحسانه ورحمته في قيوميته..
أن تشهد عدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته.. أن تشهد ستره وتجاوزه،
وحكمته ونعمته في أمره ونهيه.. أن تشهد عزه في رضاه..وغضبه وحلمه في إمهاله،
وكرمه في إقباله.. وغناه في إعراضه..
أن تعرف الله. فإذا عرفته عظم في قلبك".
ثم يعلق ابن القيم فيقول: "من أعظم الظلم والجهل: أن تطلب التوقير والتعظيم لك من الناس.
. وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره!"
وعلينا أن ننتبه إلى هذه الفائدة الغالية:
فإنك توقر المخلوق ،وتجله أن يراك في حال، ثم لا توقر الله ،
فلا تبالي أن يراك سبحانه وتعالى عليها.. أيحب أحدكم أن يراه الناس وهو يزني؟
إذن فكيف ترضى أن يراك الله على هذه الحالة؟ ألا تستحي منه؟
وصدق الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [ النساء: 108، 109]
والله علمنا؛ قال سبحانه لنا لينبهنا إلى تلك القضية أتم تنبيه.
لفت نظرنا إلى شيء نستشعره ، شيء موجود عندنا وجوداً ماديا،
لأننا ننسى استشعار نظر الله ومراقبته.. فقال جل جلاله:
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [ فصلت : 22-24] .
لما كانت نفس الناس ضعيفة ،واستشعارهم معية الله صعباً، ذكرهم الله بأن معهم شهوداً :
سمعكم ، وأبصاركم ، وأيديكم ، وأرجلكم ، وبطونكم ، وفروجكم ..
نعم ستشهد عليك . . فإذا أردت أن تعصي الله، فاذكر أن الله معك يسمعك
ويراك: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ المجادلة : 7] .
فإن لم تستشعر تلك القضية
(وعجز قلبك عن استحضار سمع الله وبصره ، فتخشاه ، فتخافه ؛
تخشى بطشه ، تخاف انتقامه ، تستحي أن يراك على العيب.عليك رقيب . .
وهو الذي يسترك . . فوقك قاهر . . وعليك قادر . . ومنك قريب،
يستطيع أن ينتقم ويأخذ حقه ،ولكنه الحليم . . والحيي الستير . . جل جلاله . .
وعجز قلبك عن استحضار تلك المعية . . فلم تستطع أن تختفي من الله . . ولا أن تستتر منه . .)
فتذكر أن معك عيناً ستشهد عليك . . وأذناً ستشهد عليك . . ويداً ستشهد عليك . . ورجلاً ستشهد
عليك . . فإنك إن استطعت أن تتستر وتختبئ . . فتختبئ من أعضائك، وتتوارى منها ،
فافعل .. فإن لم تقدر فاترك المعصية خوفاً من ذي الجلال جل جلاله . .
يا من يعاني مأساة الذنوب اختبئ من الله فلا يراك عليها . .
فإن نسيت نظر الله وغلبتك شهوتك ، فأعمت عين بصيرتك . . فاختبئ من يدك التي تعصي . .
إذا تحركت عينك للنظر ،فتذكر أنها ستشهد عليك يوم القيامة . .
وإذا تحركت رجلك لتعصي، فاعلم أنها وكل جوارحك عليك شهود يوم تلقى الله عز وجل . .
يا من يؤذي الناس بلسانه ، تذكر أن الله سميع ؛ يسمعك وسيحاسبك . .
فإن نسيت الله ، فتذكر شهادة الجوارح عليك ، تذكر شهادة لسانك وأذنيك ..
هنا إذا كملت عظمة الله في القلب منعته من المعصية.
إنك تريد أن يوقرك الناس ،وأنت لا توقر الله . كيف ذلك؟ .. قال تعالى : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا }
[ نوح : 13] أي : لا تعاملونه معاملة من توقرونه.
والتوقير: هو التعظيم ، ومنه قوله تعالى : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } [ الفتح : الآية 9] .
قال الحسن في تفسير قوله تعالى : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [ نوح :13] :"أي مالكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرونه".
قال مجاهد : "لا تبالون عظمة ربكم" .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :" لا ترون لله طاعة".
قال عبد الله بن عباس : "أي لا تعرفون عظمة الله" .
هذه المعاني ترجع كلها إلى معنى واحد؛ أنه لو عظموا الله وعرفوه . . أطاعوه وشكروه . . ولم يعصوه .
فطاعته سبحانه . . واجتناب معاصيه . . والحياء منه . . بحسب وقاره في القلب . .